فصل: الطرف الثالث في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس ببغداد وولاة العهد بالخلافة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الثالث في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس ببغداد وولاة العهد بالخلافة:

وفيه ثلاث جمل:

.الجملة الأولى في بيان ترتيب كتبهم في الرسائل على سبيل الإجمال:

كانوا يفتتحون أكثر كتبهم بلفظ من فلانٍ إلى فلانٍ وتارةً بأما بعد وربما افتتحوها بغير ذلك. فأما افتتاحها بلفظ من فلان إلى فلان فكان يكتب عنهم في أول دولتهم كما كان يكتب عن خلفاء بني أمية، وهو من عبد الله فلان أمير المؤمنين، سلامٌ عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ثم يتخلص إلى المقصود بلفظ أما بعد. إلا أنهم زادوا بعد اسم الخليفة لفظ الإمام الفلاني بلقب الخلافة، فكان يقال: من عبد الله الإمام الفلاني أمير المؤمنين فلما صارت الخلافة إلى الرشيد زاد بعد التحميد ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم فلما ولي ابنه الأمين اكتنى في كتبه وتبعه من بعده من الخلفاء على ذلك.
وقد اختلف في تقديم الاسم والكنية واللقب، والذي رتبه أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب تقديم الاسم على الكنية وتقديم الكنية على اللقب، مثل أن يقال: من عبد الله فلانٍ أبي فلانٍ الإمام الفلاني أمير المؤمنين ثم قال: وهذه المكاتبة هي التي اصطلح عليها في الأمور السلطانية التي تنشأ بها الكتب من الدواوين، إلا أن بعض العلماء قد خالفهم في هذا، وقال: الأولى أن يبدأ باللقب، مثل أن يقال من الراضي أو المتوكل وما أشبه ذلك، كما قال الله جل وعز: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} وذلك لأن اللقب لا يشاركه فيه غيره، فكان أولى أن يبدأ به.
وترتيب المكاتبة على ما ذكره في صناعة الكتاب أن يكتب: من عبد الله فلانٍ أبي فلانٍ الإمام الفلاني أمير المؤمنين، سلامٌ عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله. ثم يفصل ببياض يسير، ويكتب أما بعد فإن كذا وكذا، ثم يأتي على المعنى، فإذ فرغ من ذلك وأراد أن يأمر بأمر، فصل ببياض يسير، ثم يكتب: وقد أمير المؤمنين بكذا ورأى أن يكتب إليك بكذا، فيؤمر بامتثال ما أمر به والعمل بحسبه، ثم يفصل ببياض ويكتب: فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين، واعمل به، إن شاء الله تعالى. وكتب فلان بن فلان باسم الوزير واسم أبيه، يوم كذا، من شهر كذا، من سنة كذا. وقد يكتب في أواخر المكاتبة بعد استيفاء المقصد: هذه مناجاة أمير المؤمنين لك أو هذه مفاوضة أمير المؤمنين لك.
ويقال في السلام على أعلى الطبقات من المكتوب إليهم والسلام عليك ورحمة الله وربما قيل: ورحمة الله وبركاته.
وأما افتتاحها بلفظ أما بعد، فغالب ما يقع في الكتب المطلقة، كالبشرى بالفتوح وغيرها. ثم تارة يعقب البعدية بالحمد لله، إما مرةً أو أكثر، وغالب ما يكون ثلاث، وتارة يعقب بغير الحمد.
وأما الافتتاح بغير هذين الافتتاحين، فتارةً يكون بالدعاء، وتارةً يكون بغيره، ويكون التعبير عن الخليفة في كتبه الصادرة عنه بأمير المؤمنين على ما تقدم في خلافة بني أمية.
ثم إن كان المكتوب إليه معيناً، فالذي كان عليه الحال في أول دولتهم أن يكتب إليه باسمه، ثم لما تغلب بنو بويه على الخلفاء وغلبوا عليهم، وعلت كلمتهم في الدولة وتلقبوا بفلان الدولة وفلان الملة، فكان يكتب إليهم بذلك في الكتب إليهم. ثم لما كانت الدولة السلجوقية في أواخر الدولة العباسية ببغداد، استعملوا كثرة الألقاب للمكتوب إليه عن الخليفة في صدر المكاتبة. قال في مواد البيان: ولا يخاطب أحدٌ عن الخليفة إلا بالكاف. وقد يخاطب الإمام وزيره في المكاتبة الخاصة بما يرفعه فيه عن خطاب المكاتبة العامة الديوانية، ويتصرف في ذلك ويزاد وينقص على حسب لطافة محل الوزير ومنزلته من الفضل والجلالة.
قال في ذخيرة الكتاب: ويكون الدعاء من الخليفة لمن يكاتبه على قدر موضعه في خدمته ومحله عنده، وقد تقدم أن أعلى الدعاء كان عندهم بإطالة البقاء، ولذلك كان يدعى لملوك بني بويه فمن بعدهم بلفظ: أطال الله بقاءك. وقد تقدم في المقالة الثالثة في الكلام على مقادير قطع الورق وما يناسب كل قطع من الأقلام أنه إن كانت المكاتبة عن الخليفة ترك الكاتب من رأس الدرج قدر ذراع بياضاً، ثم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم ثم يكتب في سطر ثانٍ يلاصقها ويخرج يسيراً، من عبد الله إلى آخر التصدير الذي يليه أما بعد، وأن التصدير يكون في سطرين بينها فضاءٌ قدر شبر، لا يزيد عن ذلك ولا ينقص، ثم يترك بعد هذين السطرين فضاءً بنصف ما بين الأولين فيما ذكره في مواد البيان: وبقدره فيما ذكره في ذخيرة الكتاب ثم يقول: أما بعد، ويأتي على المكاتبة إلى آخرها على هذا النحو.
أما عنونة كتبهم، فكانت في أول دولتهم: من عبد الله فلانٍ الإمام الفلاني أمير المؤمنين في الجانب الأيمن، وفي الجانب الأيسر إلى فلان بن فلان. ثم زاد المأمون في أول عنواناته بسم الله الرحمن الرحيم. ولما تكنى الأمين في كتبه بعد ذلك زيدت الكنية في العنوان، فكان يكتب في الجانب الأيمن بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله فلان أبي فلان الإمام الفلاي وفي الجانب الأيسر، إلى فلان بن فلان. وقد تقدم في الكلام على ترتيب المكاتبات أن البسملة بقيت في العنونة إلى زمن النحاس في خلافة الراضي، وأن صاحب مواد البيان ذكر أنها بطلت منه بعد ذلك.
قال النحاس: فإن كان المكتوب إليه من موالي بني هاشم، نسب إلى ذلك. وإن لم يكن ينسب إليهم ترك.

.الجملة الثانية في الكتب العامة:

وهي على أسلوبين:
الأسلوب الأول: أن يفتتح الكتاب بلفظ من فلان إلى فلان:
بأن يكتب من عبد الله فلانٍ أبي فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين، إلى آخر المكاتبة على ما تقدم ترتيبه.
وهذه نسخة كتاب من ذلك كتب به إبو إسحاق الصابي عن الطائع لله إلى صمصام الدولة بن عضد الدولة بن بويه بسبب كردويه، الخارج عن الطاعة، وليس فيه تكنية للخليفة وهو: من عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى صمصام الدولة وشمس الملة أبي كاليجار بن عضد الدولة وتاج الملة مولى أمير المؤمنين.
سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد أطال الله بقاءك فإن أمير المؤمنين وإن كان قد بوأك المنزلة العليا، وأنالك من أثرته الغاية القصوى، وجعل لك ما كان لأبيك عضد الدولة وتاج الملة رحمة الله عليه من القدر والمحل، والموضع الأرفع الأجل، فإنه يوجب لك عند بذلك أثراً يكون لك في الخدمة، ومقام حمدٍ تقومه في حماية البيضة، إنعاماً يظاهره، وإكراماً يتابعه ويواتره. والله يؤيدك من توفيقه وتسديده، ويمدك بمعونته وتأييده، ويخير لأمير المؤمنين فيما رأيه مستمرٌّ عليه من مزيدك وتمكينك، والإبقاء بك وتعظيمك، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
وقد عرفت أدام الله عزك ما كان من أمر كردويه كافر نعمة أمير المؤمنين ونعمتك، وجاحد صنيعته وصنيعتك في الوثبة التي وثبها، والكبيرة التي ارتكبها، وتقريره أن ينتهز الفرصة التي لم يمكنه الله منها، بل كان من وراء ذلك دفعه ورده عنها، ومعاجلتك إياه الحرب التي أصلاه الله نارها، وقنعه عارها وشنارها، حتى انهزم والأوغاد الذين شركوه في إثارة الفتنة، على أقبح أحوال الذلة والقلة، بعد القتل الذريع، والإثخان الوجيع فالحمد لله على هذه النعمة التي جل موقعها، وبان على الخاصة والعامة أثرها، ولزم أمير المؤمنين خصوصاً والمسلمين عموماً نشرها، والحديث بها، وهو المسؤول إقامتها وإدامتها برحمته.
وقد رأى أمير المؤمنين أن يجازيك عن هذا القبح العظيم، والمقام المجيد الكريم، بخلع تامة، ودابتين ومركبين ذهباً من مراكبه، وسيفٍ وطوق وسوارٍ مرصع فتلق ذلك بالشكر عليه، والاعتداد بنعمته فيه، وآلبس خلع أمير المؤمنين وتكرمته، وسر من بابه على حملاته، وأظهر ما حباك به لأهل حضرته ليعز الله بذلك وليه ووليك، ويذل عدوه وعدوك، إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكتب أحمد بن محمد لثمان إن بقين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلثمائة أطال الله بقاءك، وأدام عزك، وأحسن حفضك وحياطتك، وأمتع أمير المؤمنين بك، وبالنعمة فيك وعندك.
وهذه نسخة كتابٍ آخر من ذلك أيضاً كتب به عن المقتفي لأمر الله إلى السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي في تعزيةٍ بولدٍ مات له، وفيه تكنية الخليفة وتقديم الكنية على الاسم وكثرة الألقاب للمكتوب إليه وهو.
من عبد الله أبي عبد الله محمدٍ المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، إلى شاهنشاه المعظم مولى الأمم، مالك رقاب العرب والعجم، جلال دين الله، ظهير عباد الله، حافظ بلاد الله، معين خليفة الله، غياث الدنيا والدين، ناصر الإسلام والمسلمين، محيي الدولة القاهرة، معز الملة الزاهرة، عماد الملة الباهرة، أبي الفتح مسعود بن محمد ملكشاه قسيم أمير المؤمنين.
سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله ويسلم تسليماً.
أما بعد، أطال الله بقاءك! وأدام عزك وتأييدك وسعادتك ونعمتك، وأحسن حفظك وكلاءتك ورعايتك، وأمتع أمير المؤمنين بك، وبالنعمة الجليلة والموهبة الجزيلة والمنحة النفسية فيك وعندك، ولا أخلاه منك! فإن أولى من ادرع للحوادث جبة الاصطبار، ونظر أحوال الدنيا في تقلبها بعين الاعتبار، ورجع إلى الله تعالى في قدره وقضائه، وسلم لأمره الذي لاراد له في امتحانه وابتلائه، وعرف أن له سبحانه في كل ما يجريه على عباده حكمةً باطنة، ومصلحةً كامنه، من خيرٍ عاجل ينشره، وثوابٍ آجل يؤخره لهم إلى يوم الجزاء ويدخره، وفائدةٍ هو أدرى بها وأعلم، وفعله فيها أتقن وأحكم، من خصه بما خصك الله به من الدين الراجح، والخلق الصالح، والمعتقد الواضح، والنعم التي جادك في كل يوم مقامٍ سحابها، واتسعت بن يديك عند مضايق الأمور رحابها، وأنست إذا استوحشت من العاجزين عن ارتباطها بالشكر صحابها، والمناقب التي فرعت بها صهوات المجد، وتملكت رق الثناء والحمد، وعلوت فيها عن المساجل والمطأول، وبعد ما حضر لك منها عن أن تناله يد القائم المحاول. وتأدى إلى حضرة أمير المؤمنين أمتعه الله ببقائك، ودافع له عن حوبائك نبأ الحادثة بسليلك الذي اختار الله له كريم جواره، فأحب له الانتقال إلى محل الفوز ومداره، فوجد لذلك وجوماً موفراً، وهماً للسكون منفراً، وتوزعاً تقتضيه المشاركة لك فيما ساويته والمساهمة الحاصلة في كل ما حلا من الأمور وأمر، وأمر عند ورود هذا الخبر بالتصدي للعزاء، وإعلان ما يعلن عن مقاسمتك في الضراء دفعها الله عنك والسراء، وندب جمعاً من الخدم المطيفين بشريف سدته، المختصين بعزيز خدمته، بتعز يتصونه لباس التعزية، ويستدني بتقمصه عازب التسلية، إبانةً عن انصراف الهمم الإمامية إليك فيما خص وعم من حالك، واستجلابه لك دواعي المسار في حلك وترحالك، وكون الأفكار الشريفة موكلةً بكل ما حمى من الروائع قلبك، وأعذب شربك، وأنت حقيقٌ بمعرفة هذه الحال من طويته لك ونيته، ورأيه فيك وشفقته، ورعاية مصلحتك منه بعين كالية، ورجوعه من المحافظة في حقك إلى ألفة بالصفاء حالية، وتلقي الرزية التي أرادها الله وقضاها، وأنفذ مشيئته فيها وأمضاها بالصبر المأمور به والاحتساب، والتسليم الموعود عليه بجزيل الثواب، علماً أن الأقدار لا تغالب، وغريمها لا يطالب، وإن الله تعالى إذ قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر {إنك ميتٌ وإنهم ميتون} فلا سبيل لأحدٍ من خلقه إلى البقاء، ولا وجه للخلود في دار الفناء، ولا دافع لحكمه جلت عظمته فيما قدره من الآجال، وسبق في علمه من الروائع في دار الابتلاء والأوحال وما يزال التطلع واقعاً إلى وصول جوابك الدال على السلوة التي هي الأليق بك، والأدعى إلى حصول بغيتك من قضاء الله وأدبك، لتحط الأنسة مع وصوله في رحالها، وتؤذن لصرف الغموم الجارية لأجلك بارتحالها.
هذه مناجاة أمير المؤمنين لك، أدام الله تأييدك! وأمتع بك! إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله.
الأسلوب الثاني: أن يكون الافتتاح بلفظ أما بعد:
وهو على نوعين:
النوع الأول: أن يعقب البعدية الحمد لله:
وهو على ضربين:
الضرب الأول: أن يتعدد الحمد في أول الكتاب:
ويكون ذلك في الكتب المؤذنة بحصول نعمةٍ ظاهرة كالفتوح ونحوها.
ويقع التعدد فيها بحسب ما يقتضيه النعمة، وغالب ما يكون ثلاث مرات، وربما وقع التحميد في أول الكتاب وآخره.
وهذه نسخة كتابٍ من هذا النوع كتب بها عن المعتصم إلى ملوك الآفاق من المسلمين عند قبض الأفشين على بابك ملك الروم، وهي:
أما بعد، فالحمد لله الذي جعل العاقبة لدينه، والعصمة لأوليائه، والعز لمن نصره، والفلج لمن أطاعه، والحق لمن عرف حقه، وجعل دائرة السوء على من عصاه وصدف عنه، ورغب عن ربوبيته، وآبتغى إلهاً غيره، لا إله إلا هو وحده لا شريك له. يحمده أمير المؤمنين حمد من لا يعبد غيره، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفوض أمره إلا إليه، ولا يرجو الخير إلا من عنده، والمزيد إلا من سعة فضله، ولا يستعين في أحواله كلها إلا به. ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، وصفوته من عباده، الذي آرتضاه لنبوته، وآتبعه بوحيه وآختصه بكرامته، فأرسله بالحق شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. والحمد لله الذي توجه لأمير المؤمنين بصنعه، فيسر له أمره، وصدق له ظنه، وأنجح له طلبته، وأنفذ له حيلته، وبلغ له محتبه، وأدرك المسلمون بثأرهم على يده، وقتل عدوهم، وأسكن روعتهم، ورحم فاقتهم، وآنس وحشتهم، فأصبحوا آمنين مطمئنين مقيمين في ديارهم، متمكنين في أوطانهم، بعد القتل والخوف والتشريد وطول العناء، وتتابع البلاء، منأ من الله عز وجل على أمير المؤمنين بما خصه به، وصنعاً له فيما وفقه لطلبه، وكرامةً زادها فيما أجرى على يده. فالحمد لله كثيراً كما هو أهله، ونرغب إلى الله في تمام نعمه ودوام صنعه، وسعة ما عنده بمنه ولطفه. ولا يعلم أمير المؤمنين مع كثرة أعداء المسلمين وتكنفهم إياه من أقطاره، والضغائن التي في قلوبهم على أهله، وما يترصدونه من العداوة، وينطوون عليه من المكايدة، إذ كان هو الظاهر عليهم، والآخذ منهم عدواً كان أعظم بليةً، ولا أجل خطباً، ولا أشد كلباً، ولا أبلغ مكايدة، ولا أرمى بمكروه، من هؤلاء الكفرة الذين يغزوهم المسلمون، فيستعلون عليهم، ويضعون أيديهم حيث شاءوا منهم، ولا يقبلون لهم صلحاً، ولا يميلون معهم إلى موادعة، وإن كان لهم على طول الأيام وتصرف الحالات وبعض ما لا يزال يكون من فترات ولاة الثغور أدنى دولة من دولات الظفر وخلسة من خلس الحرب، كان بما لهم من خوف العاقبة في ذلك منغصاً لما تعجلوا من سروره، وما يتوقعون من الدوائر بعد، مكدراً لما وصل إليهم من فرحةٍ.
فأما اللعين بابك وكفرته، فإنهم كانوا يغزون أكثر مما يغزون، وينالون أكثر مما ينال منهم، ومنهم المنحرفون عن الموادعة، المتوحشون عن المراسلة، ومن أديلوا من تتابع الدول، ولم يخافوا عاقبةً تدركهم، ولا دائرةً تدور عليهم. وكان مما وطأ ذلك ومكنه لهم أنهم قومٌ ابتدؤا أمرهم على حال تشاغل السلطان، وتتابع من الفتن، واضطرابٍ من الحبل، فاستقبلوا أمرهم بغزة من أنفسهم، وضعفٍ واستثارة ممن باراهم، فأجلوا من حولهم لتخلص البلاد لهم، ثم أخربوا البلاد ليعز مطلبهم، وتشتد المؤونة وتعظم الكلفة، ويقووا في ذات أيديهم، فلم يتواف إليهم قواد السلطان إلا وقد توافت إليهم القوة من كل جانب، فاستفحل أمرهم، وعظمت شوكتهم، واشتدت ضروراتهم واستجمع لهم كيدهم، وكثر عددهم واعتدادهم، وتمكنت الهيبة في صدور الناس منهم، وتحقق في نفوسهم أن كل ما يعدهم الكافر ويمينهم أخذٌ باليد. وكان الذي بقي عندهم منه كالذي مضى، وبدون هذا لا يختدع الأريب ويستنزل العاقل ويعتقل الفطن، فكيف بمن لا فكرة له، ولا روية عنده؟ هذا مع كل ما يقوم في قلوبهم من حسد أهل النعم، ومنافستهم على ما في أيديهم، وتقطعهم حسراتٍ في إثر ما خصوا به، وأنهم إن لا يكونوا يرون أنفسهم أحق بذلك، فإنهم يرون أنهم فيه سواء.
ولم يزل أمير المؤمنين قبل أن تفضي إليه الخلافة ماداً عنقه، موجهاً همته إلى أن يوليه الله أمر هؤلاء الكفرة ويملكه حربهم، ويجعله المقارع لهم عن دينه، والمناجز لهم عن حقه، فلم يكن يألو في ذلك حرصاً وطلباً واحتيالاً، فكان أمير المؤمنين رضي الله عنه يأبى ذلك لضنه به، وصيانته بقربه، مع الأمر الذي أعده الله له وآثره به، ورأى أن شيئاً لا يفي بقوام الدين وصلاح الأمر.
فلما أفضى الله إلى أمير المؤمنين بخلافته وأطلق الأمر في يده، لم يكن شيءٌ أحب إليه ولا آخذ بقلبه من المعاجلة للكافر وكفرته، فأعزه الله وأعانه الله، فلله الحمد على ذلك وتيسره، فأعد من أمواله أخطرها، ومن قواد جيشه أعلمهم بالحرب وأنهضهم بالمعضلات، ومن أوليائه وأبناء دعوته ودعوة آبائه صلوات الله عليهم أحسنهم طاعة، وأشدهم نكاية، وأكثرهم عدة. ثم أتبع الأموال بالأموال، والرجال بالرجال، من خاصة مواليه وعدد غلمانه، وقبل ذلك ما اتكل عليه من صنع الله جل وعز، ووجه إليه من رعيته. فكيف رأى الكافر اللعين وأصحابه الملاعين؟ ألم يكذب الله ظنونهم، ويشف صدور أوليائه منهم؟ يقتلونهم كيف شاءوا في كل موطن ومعترك، ما دامت عند أنفسهم مقاومةً.
فلما ذلوا وقلوا وكرهوا الموت، صاروا لا يتراءون إلا في رؤوس الجبال ومضايق الطرق وخلف الأودية ومن وراء الأنهار، وحيث لا تنالهم الخيل، حصناً للمطأولة وانتظاراً للدوائر، فكادهم الله عند ذلك وهو خير الكائدين، واستدرجهم حتى جمعهم إلى حصنهم معتصمين فيه عند أنفسهم، فجعلوا اعتصامهم لحين لهم، وصنع لأوليائه وإحاطةٍ منه به تبارك وتعالى، فجمعهم وحصرهم لكي لا تبقى منهم بقيةٌ ولا ترجى لهم عاقبة، ولا يكون الدين إلا لله، ولا العاقبة إلا لأوليائه، ولا التعس والنكس إلا لمن خذله.
فلما حصرهم الله وحبسهم عليهم ودانتهم مصارعهم، سلطهم الله عليهم كيدٍ واحدةٍ، يختطفونهم بسيوفهم، وينتظمونهم برماحهم، فلا يجدون ملجأ ولا مهرباً. ثم أمكنهم من أهاليهم وأولادهم ونسائهم وحرمهم وصيروا الدار دارهم والمحلة محلتهم، والأموال قسماً بينهم، والأهل إماءً وعبيداً. وفوق ذلك كله ما فعل بهؤلاء وأعطاهم من الرحمة والثواب، وما أعد لأولئك من الخزي والعقاب، وصار الكافر بابك لا فيمن قتل فسلم من ذل الغلبة، ولا فيمن نجا فعاين في الحياة بعض العوض، ولا فيمن أصيب، فيشتغل بنفسه عن المصيبة بما سواه، لكنه سبحانه وتعالى أطلقه وسد مذاهبه، وتركه ملدداً بين الذل والخوف، والغصة والحسرة، حتى إذا ذاق طعم ذلك كله وفهمه، وعرف موقع المصيبة، وظن مع ذلك كله أنه على طريق من النجاة، فأضرب الله وجهه، وأعمى بصره، وسد سبيله، وأخذ بسمعه وبصره، وحازه إلى من لا يرق له، ولا يرثي لمصرعه، فامتثل ما أمر به الأفشين حيدر بن طاوس مولى أمير المؤمنين في أمره، فبث له الحبائل، ووضع عليه الأرصاد، ونصب له الأشراك حتى أظفره الله به أسيراً ذليلاً موثقاً في الحديد، يراه في تلك الحالة من كان يراه رباً، ويرى الدائرة عليه من كان يظن أنها ستكون له. فالحمد لله الذي أعز دينه، وأظهر حجته، ونصر أولياءه وأهلك أعداءه، حمداً يقضى به الحق، وتتم به النعمة، وتتصل به الزيادة. والحمد لله الذي فتح على أمير المؤمنين وحقق ظنه، وأنجح سعيه، وحاز له أجر هذا الفتح وذخره وشرفه، وجعله خالصاً لتمامه وكماله بأكمل الصنع وأحسن الكفاية، ولم ير بوساً فيه ما يقذي عينه، ولا خلا من سرور يراه، وبشارةٍ تتجدد له عنه، فما يدري أمير المؤمنين ما متع فيه من الأمل، أو ما ختم له من الظفر. فالحمد لله أولاً! والحمد لله آخراً! والحمد لله على عطاياه التي لا تحصى، ونعمه التي لا تنسى، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب من هذا الضرب، كتب به أبو سعيد العلاء بن موصلايا عن القائم بالله، إلى عضد الدولة ألب أرسلان إلى مسعود بن محمود صاحب غزنة من أوائل بلاد الهند، بالبشارة بالنصر على البساسيري وهو:
أما بعد، فالحمد لله منثر الحق ومبديه، ومبير الباطل ومرديه، الكافل بإعزاز حزبه، وإذلال حربه، المؤيد في نصرة دينه خصب الدهر بعد إمحاله وجدبه، الناظم شمل الشرع بعد شتات وتفرقه، الحاسم داعي الفساد بعد استيلائه وتطرقه، ذي المشيئة النافذة الماضية، والعزة الكاملة الوافرة والعظمة الظاهرة البادية، والبراهين الرائعة الرائقة، والدلائل الشاهدة بواحدانيته الناطقة، حمداً لا انتهاء لأمده، ولا إحصاء لعدده. والحمد لله الذي اختص محمداً صلى الله عليه وسلم، برسالته وحباه، وأولاه من كرامته ما حاز له به الفضل وحواه، وبعثه على حين فترة من الرسل، وخلاء من واضح السبل، فجاهد بمن أطاعه من عصاه، وبلغ في الإرشاد أقصى غايته ومداه، ولم يزل مبدياً أعلام الإعجاز، وملحقاً الهوادي بالأعجاز، إلى أن دخل الناس في الدين أفواجاً، وسلكوا في نصرته جدداً واضحاً ومنهاجاً، وغدت أنوار الشرع ضاحكة المباسم، وآثار الشرك واهية الدعائم، ومناهل الهدى عذبةً صافية. فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه المنتخبين وخلفائه الأثمة الراشدين، وسلم تسليماً. والحمد لله الذي أصار إلى أمير المؤمنين من تراث النبوة ما استوجبه واستحقه، وأنار لديه من مطالع الجلال ما تملك به الفخر واسترقه، ومنحه من حسن التمكين والإظفار، وإجراء الأقضية على مراده والأقدار ما رد صرف الدهر عن حوزته مفلول الحد، ومد باع مجده إلى أقصى الغاية والحد، وحمى سرب إمامته من دواعي الخوف والحذر، ووقى مشرب خلافته من عوداي الرنق والكدر، وجعل معالم العدل في أيامه مشرقة الأوضاح والحجول، مفترةً النواجذ عن الكمال الضافي الأهداب والذيول، مؤذنةً باستقرار أمداد السعادة، واستمرار الأحوال على أفضل الرسم والعادة، وهو يستديمه من لطيف الصنع وجميله، ووافي الطول وجزيله ما يزيد آراءه سداداً ورشاداً، وأرومة عزه اتساعاً وامتداداً، ومجاري الأمور لديه اتساقاً على المراد واطراداً، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب!
ومعلومٌ ما اعتمده شاهنشاه المعظم بعد مسيره إلى العراق في الجيوش التي يضيق بها الفضاء، ويجري على مرادها القضاء، قاصداً تلبية الدعوة، وخاضداً شوك كل من سد عن الدين أسباب المضرة والمعرة، ومعتمداً ما حمى حوزة أمير المؤمنين من الشوائب المعترضة، وحوى أقسام الفخار في اتباع شروط الخدمة الملتزمة المفترضة، من المبادرة للكع اللعين البساسيري ولفيفه المخاذيل، مدرعاً من الاعتضاد بالله تعالى أقوى الجنن وأسبغ السرابيل، ليطهر الأرض من دنس كفرهم، ويوفر الجد، في فصم حدهم وحسم كيدهم، فأطل على بلاد الشام متطلباً من ألجأه حذره إلى الإمعان في الهرب، وقطع كل أاخية وسبب، ومعتزماً الائتمام إلى مصر لانتزاعها وبقية الأعمال، من أيدي أحلاف الغواية والضلال، وقرب الأمر فيما حأوله من ذلك ورامه اعتماه فيه صنوف التجدد وأقسامه، فاعترضه من عصيان إبراهيم اينال وعقوقه، وخروجه عن زمرة أبناء الطاعة ومروقه، بإفساد اللعين إياه، وإحالته بمكره عن مناهج هداه، ما أحوجه إلى ترك ما هو بصدده واللحاق بأثره حذاراً من استفحال خطبه، وبداراً إلى فل حده وغربه، فعاد ذلك بتجمع الأعداء واحتشادهم، وسلوكهم المحجة التي خصوا فيها بعدم توفيقهم ورشادهم، وإقدامهم على فضل الإمامة المكرمة بالمحاربة واطراحهم في منابذتها حكم الاحتشام والمراقبة، ووقوع التظافر على المجاهرة بخلافها، والتظاهر بشعار أشياع الغواية وأحلافها، جرأةً على الله تعالى واستنزالاً لعقابه، واطراحاً لما توجبه الجناية العظمى من توقع العذاب وارتقابه، وادراعاً لملابس الخزي في الدنيا والآخرة، واتباعاً لداعي الضلالة المغوية في البدء والخاتمة، فاقتضى حكم الاستظهار الانتقال من دار الخلافة بمدينة السلام إلى حديثة عانة لما هي عليه من امتناع الجانب وشدة الحصانة، إلى أن أسفر خطب شاهنشاه ركن الدين أمتع الله به عن إدراك المطالب، وتيسر المصاعب، فعاد بنصرة الدولة العباسية الإمامية القائمية مستنفداً في ذلك أقسام الوسع والاجتهاد، ومستنجداً بمعونة الله تعالى على إبادة الكفر بصنوف القراع والجهاد. ولم يزل ساعياً في إزالة العار، وانتزاع المغتصب وارتجاع المستعار، إلى أن صدق الله تعالى الأمل وحققه، وأصفى منهل العز من كل ما شابه ورنقه، وأطلع شمس الحق بعد غروبها، ومن بخضد شوكة الباطل وفل غروبها.
وعاد أمير المؤمنين إلى دار ملكه ومقر مجده في يوم كذا ضافيةً على راياته جلابيب النصر والظفر، جاريةً على إرادته تصاريف القضاء والقدر، بيمن نقيبة شاهنشاه الذي أدى في الطاعة الفرض والواجب، وتمسك من المشايعة بأفضل ما تضم عليه الرواحب، وغدا للدولة عضداً موفياً على الأمثال، في دفعه عن الإسلام وذبه، ومتقمصاً للجلال، بحسن إخلاصه في حالتي بعده وقربه. وما زالت ثقة أمير المؤمنين مستحكمةً بالله تعالى عندما ألم به من تلك الحال، ودهم من الخطب المحتف به سطوة الاشتداج والاستفحال، في إجرائه على ما ألفه من النصر والإعزاز، وإظهار آلائه في تأييده والإعجاز، إذ لم يكن ما عراه استعادةً للحق المسلم إليه، والموهبة التي ضفت جلابيبها عليه، بل جعل الله ذاك إلى امتحان صبره سبيلاً، وعلى وفور أجره دليلاً، وبإبادة كل ناعقٍ في الفتنة كفيلاً، لتزداد أنوار علاه نضارةً وحسناً، وأعلام جلاله سعادةً ويمناً، ورباع عزه سكوناً وأمناً، لطفاً منه جلت آلاؤه في ذلك ومناً. وتلا هذه النعمة التي جددت عهود الشرع وافية النضارة، وأزالت عن الدين مفاسده العارضة ومصاره، ما سهله الله وهناه، وأجزل به صنيعه الجزيل وأسناه، من ظفر السرايا التي توردها لاصطلام اللعناء واجتياحهم، وحسم فسادهم وهدم عراصهم، وإخماد ما أضرموه من نار الشرك وشبوه، وإبطال ما أحدثوه من رسم الجور وسنوه، وأفضى الحال إلى النصر على الأعداء من كل جانب، وقهر كل منحرف عن الرشاد ومجانب، وحلول التأييد على الرايات المنصورة العباسية التي لم تزل مكنوفةً على صرف الدهر أشياعها وأنصارها، وإجلاء الحرب عن قتل اللعين البساسيري وأخذ راسه، وتكذيب ظنه في احرازه من طوارق الغير واحتراسه، وإراحة الأرض وأهلها من دنسه وعدوانه، وكون من ضامه من طبقات العرب والأكراد والأتراك البغداديين والعوام بين قتيلٍ مرمل بدمه، وأسير تلقى المنون بغصة أسفه وندمه، وصريع في بقيةٍ من ذمائه، وهاربٍ والطلب واقعٌ من ورائه. فأنجز الله وعده في هذا المارق، والعبد الآبق الذي غره إمهال الله تعالى إياه فنسي عواقب الإهمال في الغواية، والإمهال في الطغيان إلى أقصى الحد والغاية، وحمل رأسه إلى الباب العزيز فتقدم بالتطواف به في جانبي مدينة السلام وشهره، إبانةً عن حاله وإيضاحاً لجلية أمره، وكفي ما يوجبه إقدامه على العظائم التي علم الله تعالى سوء مصيرها ومآلها، وحرم الرشد في التمسك والتشبث بأذيالها، وتلك عاقبة من بغى واعتدى، وأتزر بالغدر وارتدى، وأمعن في الضلة واعتدى. والجد واقع من بعد في المسير للاحتواء على بلاد المخالفين الدانية والقاصية، والأخذ مع مشيئة الله تعالى بنواصي كل فئةٍ طاغيةٍ عاصية.
فالحمد لله على المنحة التي بشرت الإسلام بجبر كسره، وأنقذت الهدى من ضيق الكفر وأسره، وأبدت نجوم العدل بعد أن أفلت وغارت، وأردت شيعة الباطل بعد أن اعتدت على الحق وأغارت. وهو المسؤول صلتها بأمداد لها تقضي إذ ذاك سائر الأغراض وبلوغها، وتقضي بكمال رائق الآلاء وسبوغها.
اقتضى مكانك أمت الله بك من رأي أمير المؤمنين الذي وطأ لك معاقد العز وهضابه، وكمل لديك دواعي الفخر وأسبابه، ونحلك من إيجابه الذي وصلت به إلى ذروة العلاء، وصلت على الأمثال والنظراء، إشعارك بما جدده الله تعالى من هذه النعمة التي غدت السعود بها جمة المناهل، سأمية المراتب والمنازل، لتأخذ من حظه بها، والشكر لله تعالى على ما تفضل به فيها بالقسم الأوفى، كفاء ما يوجبه ولاءك الذي امتطيت به كاهل المجد، واصطفيت به كامل السعد، وكونك لدولة أمير المؤمنين شهابها المشرق في الحنادس، وصفيها الرافل من إخلاص مشايعتها في أفخر الحلل والملابس، والله تعالى لا يخليك، من كل ما تستدر به أخلاف معاليك، ولا يعدم أمير المؤمنين منك الوالي الحميد السيرة، الرشيد العقيدة والسريرة، الشديد الشاكلة والوتيرة.
هذه مناجاة أمير المؤمنين لك، أجراك فيها على ما دعوك من التجمل والإكرام، وحباك فيها بما هو مبشر لك بالسعادة الوافية الأصناف والأقسام، فتلقها بالجذل والاسبتشار، وواصل شكر الله تعالى على ما تضمنته من حسن مجاري الأقضية والأقدار، وطالع حضرة أمير المؤمنين بأنبائك، وتابع إنهاء ما يتشوف نحوه من تلقائك، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني: أن يتخذ التحميد في أول الكتاب:
وهو أقل وقوعاً من الضرب الذي قبله وهذه نسخة كتاب من ذلك، كتب به أبو إسحاق الصابي عن المطيع لله إلى بعض ولاة الأطراف، عند طاعة عبد الملك بن نوحٍ أحد ملوك بني ساسان، وهي: أما بعد، فالحمد لله الولي بالاستحماد، المستحق لكنه الاعتباد، القدير على تأليف الأجساد، البصير بسبل خفايا الأحقاد، ذي الحكمة في تبديل الضغن والسخيمة ذمة، والمنابذة عصمة، والقطيعة وصلة، والشحناء خلة، والحرج فرجة، والشعث نضارةً وبهجة. الذي جعل الصلح فتحاً هنيت، والسلم منجاً بهياً، والموادعة مناً جزيلاً، والإرعاء أمناً جميلاً، والإقالة حرماً لا يضل هداه، ولا تحل قواه، ولا تخيب عواقبه، ولا تخفى مآثره ومناقبه، رأفةً منه بالخلق، وصيانةً لأهل الحق، وإمهالاً في العهد، ورخصةً في الاختصار دون الحد، ليقرب فيئة المتأمل، ويسهل رجعة المتحصل، وتسرع رفاهية المستبصر، ويخف اجتهاد المزأول المشمر، وقد قال الله عز وجل {والصلح خيرٌ} وهو المسؤول عمارة الإسلام بالسلامة، والأنام بالاستقامة، والسلطان بالطاعة، والملك ببخوع الجماعة، حتى تزال الفتنة مهيضة الجناح، مريشة الاجتياح، فليلة الشباة، قليلة الأدوات، فتكون النفوس واحدة، والأيدي مترافدة، والمودات صافية، والمآرب متكافية متضاهية في الشكر الذي يذاد به عن النفوس، ويحمى به حريم الدين، ويرجى معه التأييد، ويبتغى بوسيلته المزيد، فقد قال الله وقوله الحق: {لئن شكرتم لأزيدنكم} والله سميع مجيب. وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل!
وقد علمت ما فرط من نوح بن نصر في السهو، ونقم منه في الهفو، الذي ألهاه عن التقوى، وأنساه شيمة الرقبى، فعدل عن سنن القصد، وزاغ عنه على عمد، وحال عن آداب آبائه رحمهم الله وهم القدوة، وسجاياهم وبهم الأسوة، وما كان ينتمي به من الولاء، ويعتزي إليه من الوفاء، وصار أدنى معنًى ممن يحسده على كرم الأصل، وينافسه في شرف المحل، ويدخل على عقله مدخل النصيحة، ويطلع بظاهرها على آرائه الصريحة، وكل ذلك إلحادٌ في أمير المؤمنين وعهدته، ومروق عن أزمته، وعقوقٌ بالبرية يشقى به الباقي، ولن يشقى بن النازح الماضي. فإن أمير المؤمنين ما زال واعياً لأوامر سلفه، عارفاً بمآثر خلفه، متجافياً لأولئك عما ابتدعه، متنوياً لهذا التجاوز عما صنعه، فقد كان نمي إلى أمير المؤمنين أن عبد الملك بن نوح، مولى أمير المؤمنين، سليم السريرة، سديد البصيرة، يرجع إلى رأيه وتدبيره، ولم يجد وشمكير بن زنار، عاجله بالبوار، مساغاً إلى خلته، ولا احتيالاً في ليه وفتله، وكان لعبد الملك ركن الدولة بن مالك مولى أمير المؤمنين ظهير صدق، إن وسن أيقظه، وإن ماد أيده، خلة فضل فطره الله عليها، وغريزة تمييز أحسن الله إليه فيها، فإنه لو قال أمير المؤمنين: إنه لا مثل له استحق هذا الوصف، ولأمن أمير المؤمنين فيه الخلف. ترك لباس أبيه فنزعه، واعتاض منه وخلعه، وتنصل مما كان منه منتهكاً، فعاد عليه محتنكاً، وأتى الأمر من طريقه، ولجأ فيه إلى فريقه، ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين، أحسن الله ولايته، ومعز الدولة أبي الحسين تولى الله معونته، واستصلحهما، وكفى، استخلصهما، وغنى، وراسل في الإنابة وإن لم يكن حائداً، والاستقالة وإن لم يكن جانباً، فما ترك ركن الدولة ومعز الدولة كلأهما الله إكبار قدره، وإجلال أمره، والقيام بخلاصه، والنطق عن أمير المؤمنين بلسان مشاركته، وإذكار أمير المؤمنين بما لم ينسه من تلك الوثائق، التي صدر بها كتابه، والعلائق، التي وشح بها خطابه، إلى أن أجل أبا محمد نوحاً وترحم عليه، وقبل عبد الملك وأحسن إليه، وواصل رسله، واستمع رسائله، وقلده خراسان ونواحيها، وسائر الأعمال الجارية فيها، وعهد إليه في ذلك عهداً وميزه باللواء، والخلع والحباء، بعد أن كناه بلسانه، ووفاه حدود إحسانه، وألحقه في ذلك بآبائه، ولم يقصر فيه بشأوه. وكتاب أمير المؤمنين هذا، وقد اطردت الحال واستوثقت، وامتزجت الأهواء واتفقت، وخلا المشرق من الاضطراب الذي طال أمده، ولم يكد يرى أثره، وصارت العساكر الدانية والنائية فوضى لا تمتاز، ولا تنفرد وتنحاز، وذلك صنع الله أمير المؤمنين في جم الشتات، وتلافي الهنات، ولم خلل التخاذل، ومداواة نغل الدخائل، لتتم الكلمة في ولايته، وتعم النعم في طاعته، ولا يكون للشيطان سبيلٌ على شيعته، ولا طريق إلى مكيدة أبناء دعوتهن والله ذو الفضل العظيم.
فاحمد الله على هذا النبإ الذي تطوع به المقدار، والخبر الذي دلت عليه الأخبار، من الفتح الذي لم ينغصه تعب، ولم يكدره عناء ولا نصب، فإنه تأتى سهلاً، وأتى رسلاً، وابتدأ عفواً، وانتهى خالصاً صفواً، فقد قمع الله به العندة، وجمع بتهيئة العبدة، وآذن عقباه بالسعادة، وبشرفي سيماه باتصال المادة، وأنزل أبا الفوارس عبد الملك بن نوح، مولى أمير المؤمنين، منزلة من رآه أمير المؤمنين أهلاً للوديعة، وآمنه على الصنيعة، ورتبه مرتبة المسبحة، واستحفظ الله حسن الموهبة به، وما قد تجدد بين أبي الفوارس وبينهما من الاتحاد، المتولد عن الاغتباط والاعتداد، فقل من شاقهما فلم يندم، وتمرد عليهما فلم يكلم، وتمسك بهما فلم يسعد، وارتبع أكنافهما فلم يوعد، وأجب عن هذا الكتاب بوصوله إليكن وموقع متضمنه لديك، وما يحدثه لك من الجذل، وانفساح الأمل، موفقاً إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني: أن لا يعقب البعدية تحميدٌ بل يقع الشروع عقبها في المقصود:
وهذه النسخة كتاب من ذلك، كتب به أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله إلى من بصحار وسوادها، وجبال عمان وأعمالها، وحاضرتها وباديتها، بالأمر بالاجتماع على الطاعة، وهي:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين للذي حمله الله من أعباء الإمامة، وأهله له من شرف الخلافة، واستودعه من الأمانة في حياطة المسلمين، والاجتهاد لهم في مصالح الدنيا والدين، يرى أن يراعي من بعد منهم ونأى، كما يراعي من قرب ودنا، وأنا يلاحظ جماعتهم بالعين الكالية، ويطلبهم بالعين الوافية، ويتصفح ظواهر أمورهم، وبواطن دواخلهم، فيحمد من سلك نهج السلامة، ويرشد من عدل عن الاستقامة، وينظم شمل الجماعة على الألفة التي أمر الله بها وحض عليها، ويزيلهم عن الفرقة التي ذمها ونهى عنها، إذ يقول جل من قائل: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}. فلا يزال أمير المؤمنين يعرفهم ما افترض الله عليهم من طاعة الأئمة وأولي الأمر الذين لا عصمة لمخالفهم، ولا ذمة لمعاندهم، ولا عذر لمسلم ولا معاهدٍ نأى بجانبه عنهم، وضل بوجهه عن سبيلهم، إذ كان الإمام حجة الله على خلقه، وخليفته في أرضه، وكانت الطاعة واجبةً له ولمن قلده أزمة أموره، واستنابه في حمل الأعباء عنه، فمن آنس منه الهداية أحمده، ومن أنكر منه الغواية أرشده بالوعظ ما اكتفى به، أو بالبسط إن أحوج إليه. وإن أمير المؤمنين يسأل الله أن يوفقه للرأي السديد، ويمده بالصنع والتأييد، ويتولاه بالمعونة على كل ما لم الشعث، وسد الخلل، وقوم الأود وعدل الميل، وأحسن العائدة على المسلمين جميعاً فيشرق الأرض وغربها، وسهلها وحزنها، إنه بذلك جدير، وعليه قدير، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
وقد علمتم أن أمير المؤمنين أحسن إلى الرعية بما كان فوضه إلى عضد الدولة وتاج الملة رحمة الله عليه من سياستهم بادياً، ثم أحسن باستخلاف عديله وسليله صمصام الدولة وشمس الملة ثانياً، إذ كان خيرة أمير المؤمنين وصفوته، وحسامه ومجنه، والمورد المصدر عنه بالعهدين المستمرين من أمير المؤمنين بالنص عليه، ومن الوالد رحمه الله بالوصية إليه. وإن هذه العقود المؤكدة، والعهود المشددة، موجبة على الكافة طاعة من حصلت له، أو استقرت بوثائقها في يده، إذ لا يصح من حاكم حكم، ولا من عاقدٍ عقد، ولا من والٍ إقامة حد، ولا من مسلمٍ تأدية فرضٍ حتى يكون ذلك مبنياً على هذا الأصل، ومداراً على هذا القطب، وإن كان خارجٌ عنهما وراضٍ بخلافهما، خرج عن دينه، أثم بربه، بريء من عصمته، وأنتم من بين الرعية فقد خصصتم سالفاً بحسن النظر لكم، وعرفت الطاعة الحسنة منكم، فتقابلت النعمة والشكر، تقابلاً طاب به الذكر، وانتظم به الأمر. ثم حدثت الهفوة المعترضة قبيل، فكان أمير المؤمنين موجباً للمعاقبة الموجبة على الجاهل الموضع في الفتنة، والمعاتبة الممضة على الحكيم منكم القاعد عن النصرة، إلى أن وردت كتب أستادهرمز بن الحسن، حاجب صمصام الدولة، باستمراركم على كلمةٍ سواء، في نصرة الأولياء، والمحاماة دونهم، ومدافعة الأعداء والمراماة لهم. فوقع ذلك من أمير المؤمنين أحسن مواقعة، ونزل لديه ألطف منازله، وأوجب لكم به رضاه المقترن برضا الله سبحانه، الموجب للقربة والزلفى عنده، وأمير المؤمنين يأمركم بالدوام على ما أنتم، والثبات على ما استأنفتم، المبادرة إلى كل ما يأمركم به فلان الوالي عليكم من صمصام الدولة بالاستخلاف والتفويض، ومن أمير المؤمنين، بالإمضاء لما أمضاه، والرضا بما يرضاه، فاعلموا ذلك من رأي أمير المؤمنين وأمره، وانتهوا فيه إلى حده ورسمه، وكونوا لفلان الوالي خير رعية، يكن لكم خير راعٍ، فقد أمر فيكم بحسن السيرة، وإجمال المعاملة، وتخفيف الوطأة، ورفع المؤونة، وجعل إليه عقاب المسيء، وثواب المحسن، ومسالمة المسالم، ومحاربة المحارب، وأمان المستأمن، وإقالة المستقيل، وحمل الجماعة على سواء السبيل، إن شاء الله تعالى.